لغة البيان والجمال

  لغة البيان والجمال

اكتملت وسمت بالقرآن

وازدانت بأفصح البيان


تشرفت بخاتم الرسل والأنبياء

وارتقت ببلاغة سيد الأوصياء

وتفوق بفضلها البلغاء والحكماء

واعتلى المنابر بسببها الشعراء والخطباء

ولامس الثريا بفضل ثرائها أهل اللغة والأدباء


يخطب ودها أهل الفهم والعلم

ويسعى لاكتسابها ذوو العقل والحلم


لأنها ترفع قدر الرجال

إلى مصاف النجوم والهلال


كيف لا

وهي لغة القرآن التي جعلها الله أكمل لسان


وحقيقة أن المتبصر في أحوال الأمة اليوم وماتلقاه اللغة من إهمال وتضييع ينم ويدل على أن العرب لن تقوم لهم قائمة أبدا وهم بهذاالوهن والضعف والبوار والعجز والعقوق تجاه أهم مكون للثقافة العربية والإسلامية والركيزة التي ترتكز عليها حياة الشعوب وشخصية الفردوالإنسان العربي 

وهي هذه اللغة العظيمة الجميلة

التي انفصلت عنها الشعوب فتاهت كياناتهم وأضاعوا هويتهم التي أصبحت خليطا من العادات والسلوكيات القشرية المستوردة من الشعوبالأجنبية

فكانت بداية الانقياد والتبعية والانهزامية التي جعلت الأمة تعيش هذا الإنحدار والتخبط والزيغ والاحتراب والتخلف


وقد تظافرت العوامل والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتكالب الأمم .

وأسباب كثيرة ساهمت في انحدار وتشتت وتشرذم الأمة

مما ساهم في انكفاء كل قطر على ذاته حتى ضاقت دائرة الإهتمامات والطموح وصار أعلى ماتطمح له الشعوب العربية هو تحصيل لقمةالعيش وإن كانت بأدوات غربية ولغات أعجمية ناقصة 

وأصبحت اللغات الأجنبية هي مصدر الفخر والتقدم والرقي عند كل من فقد هويته وأضاع حاضره وتاهت بوصلته ونسي ماضيه ورهنمستقبله رهينة لأهواء ورغبات الأمم والشعوب الغربية التي يمّم وجهه شطرها


قال الله تعالى في محكم تنزيله

ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم 


فنبذوا كتاب الله ظهريا

واستكانوا تحت نير العبودية للمستعمر الذي عاد بحلة جديدة واستبدل الاستعمار العسكري باستعمارٍ أسوأ وأخبث وأشد وطأةً وأنكى

ألا وهو الاستعمار الفكري والثقافي الذي انبهر به أنصاف المثقفين وأدعياء الفكر وكل مستلب فكريا وحضاريا من الشعوب الساذجة

التي أضحت شعوبا ممسوخة فقدت روحها وصيروها جسدا مواتا مشوه المعالم لاحياة فيه 

لأن روح الأمة ونهضتها في دين الإسلام والرسالة المحمدية وفي لغة الوحي والاعتزاز بالهوية العربية والإسلامية التي يحاول الأعداء وقوىالإستكبار العالمي سلخنا عنها ليسهل عليهم إحكام قبضتهم على مقدرات وثراوت الأمة والسيطرة عليها كما يحدث الآن للأسف

 فهم يعلمون تماما بأن نهضة وقوام هذه الشعوب العربية والأمة تبدأ بتصحيح النهج والعودة لصراط الإسلام المستقيم والتمسك باللغةالعربية العظيمة لأنها الباب الذي سيَلِج منه العرب لميدان التقدم والإزدهار والإنتصار


وسواء كانت أسباب التراجع سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو ثقافية أو كل ذلك جميعا

فإن الأهم الآن هو اهتبال الفرص اهتبالا وإعلان حالة طوارئ فكرية وحضارية لإنقاذ مايمكن إنقاذه من هويتنا ومشتركاتنا

وأهم هذه المشتركات هو اللغة العربية التي توحد كافة أقطار الوطن العربي تحت سمائها


ومانراه من تدمير مُمنهج لِلغة الكمال والجمال

ولغة البحور الزاخرة والكنوز الباهرة هو انتحار حضاري وروحي وفكري وإنساني ولاشك 


ولعل أهم الأسباب في عزوف أجيال الغفلة الحضارية في هذا الزمان هو المناهج الغبية والمؤلفات الثقيلة  التي تنفر الطالب منذ نعومة أظفارهمن لغته فيحيلونها إلى وحش كاسر في نظره تجعله يولي هاربا منها سنيّ عمره الباقية

فتنطبع في ذهنه صورة نمطية تجعله يستثقل اللغة السلسة الخلابة وربما أدى به ذلك إلى كرهها والعياذ بالله وعافانا الله مما ابتلاهم به


وعادة ماتستمر هذه الصورة راسخة في ذهنه لسنوات ولربما لعقود ممايحتاج معه إلى جهود جبارة من طراز فريد وإلى معلم أريب أديبلكي يحيل هذا التصور الخاطئ الظالم

عن لغتنا الحبيبة الجميلة 

وقد آن الأوان للقيام بمراجعة فكرية شاملة ووضع الخطط والحلول الناجعة بعد الكشف عن مكمن الخلل والداء وتكثيف الجهود على مستوىالوطن العربي لإعادة لغتنا لمكانتها المرموقة التي تستحقها وأن تكون هي اللغة الفاعلة في الضمير والوجدان العربي والإسلامي ولغة جميعالعلوم والمعارف الدنيوية والدينية


مالمانع من تعليم الناس جماليات اللغة وإعجازاتها البيانية المذهلة وتنويرهم بحكم وخطب وأدب عظماء العرب والمسلمين والأئمة الأعلام الأبرارعليهم السلام

ولنا في فصاحة وبلاغة الإمام علي عليه السلام مايسلب الألباب ويجعل الناس تهيم حبا واعتزازا بلغة البيان والجمال

كخطبته الخالية من النقط المليئة بالحكم والتوحيد والبيان الساحر

قال ( عليه السلام ) : ( الْحَمْدُ للهِِ أَهل الْحَمْدِ وَمَأْواهُ ، وَلَهُ أَوْكَدُ الْحَمْدِ وَأَحْلاَهُ ، وَأَسْرعُ الْحَمْدِ وَأَسراهُ ، وَأَطْهرُ وَأَسْماهُ ، وَأَكْرمُالْحَمْدِ وَأَوْلاَهُ ...

الْحَمْدُ للهِِ الْمَلِكِ الْمَحْمُودِ ، الْمَالِكِ الْوَدُودِ ، مُصَوِّرِ كُلِّ مَوْلُود ، وَمَوْئِلِ كُلِّ مَطْرُود ، وَسَاطِحِ الْمِهَادِ ، وَمُوَطِّدِ الأطْوادِ ،وَمُرْسِلِ الأمْطَارِ ، وَمُسَهِّلِ الأَوْطَارِ ، عَالِمِ الأَسْرارِ وَمُدْرِكِهَا ، وَمُدَمِّرِ الأَمْلاَكِ وَمُهْلِكِهَا ، وَمُكَوِّرِ الدُّهُورِ وَمُكَرِّرِهَا ، وَمُورِّدِالأُمُورِ وَمُصَدِّرِهَا ، عَمَّ سماءه ، وَكَمَّلَ رُكَامَهَ وَهَمَلَ ، وَطَاوَعَ السَّؤالَ وَالأَمَلَ ، وَأَوْسَعَ الرَّمْلَ وَأَرْمَلَ ، أحمده حمداً ممدوداً، وأوحده كما وحد الأواه ، وهو الله لا إله للأمم سواه ، ولا صادع لما عدل له وسواه ، أَرْسَلَ مُحَمَّداً عَلَماً لِلإِسْلاَم ،وَإِماماً لِلْحُكّام ، مُسَدِّداً لِلرُّعاعِ ، ومعطل أحكام ود وسواع ، أعلم وعلم ، وحكم وأحكم ، وأصل الأصول ، ومهد وأكدالموعود وأوعد ، أوصل الله له الإكرام ، وأودع روحه الإسلام ، ورحم آله وأهله الكرام ، ما لمع رائل وملع دال ، وطلع هلال، وسمع إهلال . 

اِعْملُوا رَحمكُمْ اللهُ أَصْلَحَ الأَعْمَالِ ، وَاسْلُكُوا مَصالِحَ الْحَلاَلِ ، وَاطْرَحُوا الْحَرامَ وَدَعُوهُ ، وَاسْمَعُوا أَمْرَ اللهِ وَعُوهُ ،وَصِلُوا الأَرْحَامَ وَرَاعُوها ، وَعَاصُوا الأَهْواءَ وَارْدَعُوها ، وصاهروا أهل الصلاح والورع ، وصارموا رهط اللهو والطمع، ومصاهركم أطهر الأحرار مولداً ، وأسراهم سؤدداً ، وأحلامكم مورداً ، 

وها هو أمّكم وحل حرمكم مملكاً عروسكم المكرّمة ، وما مهر لها كما مهر رسول الله أم سلمه ، وهو أكرم صهر أودعالأولاد ، وملك ما أراد ، وما سهل مملكه ، ولا هم ولا وكس ملاحمه ولا وصم ، اسأل الله حكم أحماد وصاله ، ودوامإسعاده ، وأهلهم كلا إصلاح حاله ، والأعداد لمآله ومعاده ، وَلَهُ الْحَمْدُ السَّرْمَدُ ، وَالْمَدْحُ لِرَسُولِهِ أَحْمَدَ


وقال في موضع آخر هذه الحكم الرائعة الجامعة للخير والفلاح والتي تنسب إليه

قال عليه السلام

" من وثق بالله أراه السرور  ومن توكل عليه كفاه الأمور  والثقة بالله حصن لا يتحصن فيه إلا مؤمن أمين والتوكل على الله نجاة من كلسوء وحرز من كل عدو  والدين عزّ  والعلم كنز  والصمت نور  وغاية الزهد الورع ولا هدم للدين مثل البدع ولا أفسد للرجال مثل الطمع  وبالراعي تصلح الرعية  وبالدعاء تُصرف البلية ومن ركب مركب الصبر اهتدى إلى مضمار النصر ومن عاب عِيب ومن شتم أُجيب  ومنغرس أشجار التّقى اجتنى ثمار المنى 


وفنون اللغة الخلابة من نثر ونظم وأشعار ومقامات أدبية رفيعة ماتعة وكذلك قواعد اللغة العربية التي تقوم اللسان وترتقي بالذائقةوالفكر إلى أرفع وأسمى آفاق العلم والمعرفة يتم التغافل عنها وإهمالها حتى انحطت الأمة على جميع الأصعدة وفي كافة الميادين


وحتى ندلل بالمثال على روعة وجمال هذه اللغة نقدم هذه المقامة من مقامات بديع الزمان الهمذاني

وهو الأديب والعالم اللغوي الكبير الذي ابتدع علم المقامات وأتى من بعده الحريري الذي حلق بها إلى عنان السماء

وتكمن أهميتها في نظري أنها تحوي الذخائر والثروات اللغوية الهائلة وتتيح لمن أدام النظر فيها القدرة على اكتساب مخزون لغويوبلاغي لابأس به وهي وغيرها من فنون اللغة بعد القرآن الكريم لو أتيح للنشء الإطلاع عليها والاهتمام بها فإن لهذه الفنون اللغوية منالفوائد في نهضة الأمة ماسيمكنها من الإرتقاء إلى مصاف النجوم والجوزاء


يقول المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون

استطاعت اللغة العربية أن تبرز طاقة الساميين في معالجة التعبير عن أدق خلجات الفكر والعربية من أنقى اللغات


فتعالوا نتلذذ بهذه المقامة 

ومقامات الهمذاني تقوم على شخصيتين رئيسيتين وهما الراوي وهو عيسى بن هشام والآخر أبي الفتح الإسكندري والذي تدورحولهما القصص ويتفنن الراوي في السجع الذي يطرب الأسماع مع غزارة فكرية وقصصية وشعرية وبلاغية وضروب متنوعة منالثقافة تثبت بما لا يدع مجالا للشك على تفوق الهمذاني على أقرانه وقدرته على الجمع بين البلاغة والفكاهة والإمتاع مع خيال خصبوفكر رائع

  يقول في المقامة الإبليسية

حَدَّثَنْا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: أَضْلَلْتُ إِبِلاً لِي، فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهَا، فَحَلَلْتُ بِوادٍ خَضِر، فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌيَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ، وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ،وَأَمَرَنِي بالجُلُوسِ فَامْتَثَلْتُ، وَسَأَلَنِي عَنْ حَالِي فَأَخْبَرْتُ، فَقَالَ لِي: أَصَبْتَ دَالَّتَكَ وَوَجَدْتَ ضَالَّتِكَ، فَهَلْ تَرْوِي مِنْ أَشْعَارِ العَرَبِ شَيْئاً؟قُلْتُ: نَعَمْ، فَأَنْشَدْتُ لاِمْرِئِ القَيْسِ، وَعَبيدٍ وَلَبِيدٍ وَطَرَفَةَ فَلَمْ يَطْرَبُ لِشَيْئٍ مِنْ ذلِكَ، وَقالَ: أُنْشِدُكَ مشِنْ شِعْري؟ فَقُلتُ لَهُ: إِيهِ، فَأَنْشَدَ:


بَانَ الخَلِيطُ وَلَوْ طَوَّعْتَ ما بَانَا 

وَقَطَّعُوا مِنْ حِبَالِ الوَصْلِ أَقْرَانا

حَتَّى أَتَى عَلىَ القَصِيدَةِ كُلِّها، فَقُلُتُ: يَا شَيْخُ هَذِهِ القَصِيدَةُ لِجَرِيرٍ قَدْ حَفِظَتْهَا الصِّبْيَانُ، وَعَرَفَها النِّسْوانُ، وَوَلَجتِ الأَخْبِيةَوَوَرَدِتْ الأَنْدِيَة،فقالَ: دَعْني مِنْ هذَا، وَإِنْ كُنْتَ تَرْوِي لأَبي نُوَاسٍ شِعْراً فَأَنْشِدْنِيهِ، فَأَنْشَدْتُهُ:

لا أَنْدُبُ الدَّهْرَ رَبْعاً غَيْرَ مَأْنُوسِ 

 وَلَسْتُ أَصْبُو إِلَى الحَادِينَ بِالْـعِـيسِ

أَحَقُّ مَنْزِلَةٍ بِالهَجْرِ مَنْزِلَةٌ 

 وَصْـلُ الحَبِيبِ عَلَيْهَا غَيْرُ مَلْبُوسِ

يَا لَيْلَةً غَبَرَتْ مَا كَانَ أَطْيَبَهَا 

 وَالْكُوسُ تَعْمَلُ فِي إِخْوَانِنَـا الـشُّـوسِ

وَشَادِنٍ نَطَقَتْ بِالْسِّحْرِ مُقْلَتُهُ 

مُزَنَّرٍ حــلْفَ تَسْبِيحِ وَتَقــــدِيسِ

نَازَعْتُهُ الرِّيقَ وِالصَّهْبَاءَ صَافِيَةًَ 

فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِـيسِ

لَمَّا ثَمِلْنَا وَكلُّ النَاسِ قَدْ ثَمِلوُا

وَخِفْتُ صَرْعَتَهُ إِيَّاي بِالكُـــوسِ

غَطَطْتُ مُسْتَنْعِساً نوْماً لأُنْعِسَهُ 

فَاسْتَشْعَرَتْ مُقْلتَاهُ النَّوْمَ مِن كِيسِــي

وَامْتَدَّ فَوْقَ سَرِيرٍ كَانَ أَرْفَقَ بِي

عَلـى تشَعُّثِهِ مِنْ عَرْشِ بَلْقِــيسِ

وَزُرْتُ مَضْجَعَهُ قَبْلَ الصَّبَاحِ وَقَدْ

دَلَّتْ عَلى الصُّبْحِ أَصْوَاتُ النَّوَاقِيسِ

فَقَالَ: مَنْ ذَا؟ فَقُلْتُ: القَسُّ زَارَ

 وَلاَبُدُّ لِدَيْرِكَ مِنْ تَشْمِيسِ قِسْـيسِ

فَقَالَ: بِئْسَ لَعَمْرِي أَنْتَ مِنْ رَجُل 

 ٍفَقُلْتُ كَلاَّ فَإِنِّي لَسْتُ بِـإِبْـلـيسِ

قَالَ: فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ، فَقُلْتُ: قَبَّحَكَ اللهُ مِنْ شَيْخٍ لاَ أَدْري أَبِانْتِحَالِكَ، شِعْرَ جَرِيرٍ أَنْتَ أَسْخَفُ أَمْ بِطَرَبِكَ مِنْ شِعْرِ أَبي نُوَاسٍ وَهْوَفُوَيْسِقٌ عَيَّارٌ؟؟فَقَالَ: دَعْنِي مِنْ هَذاَ وَامْضِ عَلى وَجْهِكَ، فَإِذَا لَقِيتَ فِي طَرِيقِكَ رَجُلاً مَعَهُ نِحيٌ صَغِيرٌ يَدُورُ فِي الدُّورِ، حَوْلَ القُدُورِ، يُزْهِىبِحِلْيَتِهِ، وَيُبَاهِي بِلِحْيَتِهِ، فَقُلْ لَهُ: دُلَّنِي عَلَى حُوتٍ مَصْرُورٍ، فِي بَعْضِ البُحورِ، مُخْطَفِ الخُصورِ، يَلْدَغُ كالزُّنْبُورِ، وَيَعْتَمُّ بِالنُّورِ، أَبُوهُ حَجَرٌ، وَأُمُّهُذَكَرٌ، وَرَأْسُهُ ذَهَبٌ، وَاسْمُهُ لَهَبٌ، وَباقِيهِ ذَنَبٌ، لهُ فِي المَلْبُوسِ، عَمَلُ السُّوسِ، وَهُوَ في البَيْتِ، آفَةُ الزَّيْتِ، شِرِّيبٌ لا يَنْقَعُ، أَكُولٌ لا يَشْبَعُ، بَذُولٌ لايَمْنَعُ، يُنْمى إِلى الصُّعُودِ، وَلاَ يَنْقَصُ مَالُهُ مِنْ جُودٍ، يَسُوءُكَ مَا يَسُرُّهُ، وَيَنْفَعُكَ مَا يَضُرُّهُ، وَكُنْتُ أَكْتُمُكَ حَدِيثي، وَأَعِيشُ مَعَكَ في رَخَاءٍ، لَكِّنَكَأَبَيْتَ فَخُذَ الآنَ، فَمَا أَحَدٌ مِنَ الشُّعَرَاءِ إِلاَّ وَمَعْهُ مُعِينٌ مِنَّا، وَأَنَا أَمْلَيْتْ عَلَى جَرِيرٍ هذِهِ القَصِيدَةَ، وَأَنَا الشَّيْخُ أَبُو مُرَّةَقَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: ثُمَّغَابَ وَلَمْ أَرَهُ وَمَضَيْتُ لِوَجْهِي، فَلَقِيتُ رَجُلاً فِي يَدِهِ مَذَبَّةُ، فَقُلْتُ: هَذَا وَاللهِ صَاحِبي، وَقُلْتُ لَهُ مَا سَمِعْتُ مِنْهُ فَنَاوَلنِي مِسْرَجَةً، وَأَوْمَأَ إِلَى غَارٍ فِيالجَبَلِ مُظْلِمٍ، فَقَالَ: دُونَكَ الغَارَ، وَمَعكَ النَّار، قَالَ: فَدَخَلْتُهُ فَإِذَا أَنَا بإِبِلي قَدْ أَخَذَتْ سَمْتَهَا، فَلَوَيْتُ وَجُوهَهَا وَرَدَدْتُهَا، وَبَيْنَا أَنَا في تِلْكَ الحَالةِفي الغِيَاضِ أَدُبُّ الخَمَرَ، إِذْ بِأَبِي الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيِّ تَلَقَّانِي بِالسَّلاَمش، فَقُلْتُ: مَا حَدَاكَ وَيْحَكَ إِلَى هَذَا المَقامِ؟ قَالَ: جَوْرُ الأَيَّامِ، فِي الأَحْكَامِ،وَعَدَمُ الكِرَامِ، مِنَ الأَنَامِ، قُلتُ: فَاحْكُمْ حُكْمَكَ يا أَبَا الفَتْحِ، فَقَالَ: احْمِلنِي عَلَى قَعُودٍ، وَأَرِقْ لي مَاءً فِي عُودٍ، فَقلْتُ: لَكَ ذَلِكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

نَفْسِي فِـدَاءُ مُـحَـكِّـمٍ *** كَلَّفْتُهُ شَطَطَاً فَأَسْـجَـحْ

مَا حَكَّ لِـحْـيَتَـهُ، وَلاَ *** مَسَحَ المُخَاطَ، وَلاَ تَنَحْنَحَ

ثُمَّ أَخْبَرْتُهُ بِخَبرِ الشَّيْخِ، فَأَوْمأَ إِلى عِمَامَتِهِ، وَقَالَ: هَذِهِ ثَمَرَةُ بِرِّهِ، فَقُلتُ: يَا أَبَا الفَتْحِ شَحَذْتَ عَلى إِبْلِيسَ؟ إِنَّكَ لَشَحَّاذٌ!!


ولو أردت سرد الأمثلة للدلالة على إعجاز وجمال وكمال اللغة لخرجنا عن حد المقالة إلى مجلدات ضخمة كثيرة الورق وفي ذلك كفاية لمن استرشد واهتدى للصواب وسبيل الرشاد وتعلق قلبه بلغة القرآن والكمال

يقول المؤرخ الفرنسي إرنست رينان عن اللغة العربية كلاما رائعا ومنصفا مانصه

بكل كمالها ومرونتها وثروتها التي لاتنتهي لقد كانت هذه اللغة منذ بدايتها على درجة من الكمال

والعجيب أن العرب مع هذا الكمال فهم مازالوا يمارسون العقوق بأمهم الجميلة البارة وفخر الأمة وسيدة كل اللغات على مر العصور والأزمان

وفنون اللغة الخلابة من نثر ونظم وأشعار ومقامات أدبية رفيعة ماتعة وكذلك قواعد اللغة العربية التي تقوم اللسان وترتقي بالذائقة والفكر إلى أرفع وأسمى آفاق العلم والمعرفة يتم التغافل عنها وإهمالها حتى انحطت الأمة على جميع الأصعدة وفي كافة الميادين

يقول الأديب الرافعي

ماذلت لغة شعب إلا ذل ولا انحطت إلا كان أمره في ذهابٍ وإدبار

ولعمري قد صدق الرافعي مما نراه في حاضرنا

ومع هذه الأبيات الرائعة الماتعة للشماس يصف جمال اللغة وعبقها الذي تضوع به الكون وينصح من التعلق بقشور اللغات الأجنبية وثقافتها

يقول فيها


هام الفـؤاد بروضـك الريان 

 أسمى اللغات ربيبة القرآن

أنا لن أخاطب بالرطانة يعربا

أو أستعير مترجماً لبياني

أودعت فيك حشاشتي ومشاعري 

و لأنت أمي والدي وكياني

لغة حباها الله حرفاً خالداً

 فتوضعت عبـقاً على الأكوان

وتلألأت بالضاد تشمخ عـزةً 

 وتسيل شهداً في فم الأزمان

فاحذر أخي العربي من غـدر المدى 

 واغرس بذور الضاد في الوجدان

ماكان حرفك من "فرنسا" يقتدى

 أو كان شعرك من بني "ريغان"

ولئن نطقت أياً شـقيقي فلتقـل

 خيـر اللغات فصـاحة القرآن


فإلى متى هذا الإهمال والنكران والعقوق والاستمرار في في دوامة الانحطاط بالبعد عن لغة الدين والهوية والتنكب عن سبل النهضة بأمة تكالبت عليها الأمم بسبب انسلاخها عن هويتها ومصدر عزتها ورفعتها وسؤددها ولاسبيل لذلك إلا بالتمسك بالرسالة المحمدية واللغة الكاملة الشاملة السامية


اللهم صلِّ على سيدنا محمد وعلى أهل بيته الطيبين الطاهرين وبارك وسلم


حمدان بن هادي الفاطمي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

صلاة الكسوف وكيفيتها بطريقة مبسطة

العباقرة وعظمة العقل

أم البنين هي أم المؤمنين