أعظم سفير في التاريخ

 

أعظم سفير في التاريخ


         


          في كل عام في مثل هذه الأيام نعيش الذكرى العظيمة والمؤلمة ونستذكر استشهاد سيدنا أبا عبدالله الحسين عليه السلام وأهل بيته ورهطه من شهداء كربلاء الطاهرين المؤمنين، نعيش ذكرى الإباء والشجاعة الفائقة والعزة والصمود أمام جيوش الظلام الأموية التي لم تستطع إخماد الثورة الحسينية وإطفاء نورها الذي ظل يضيء قلوب الأحرار الذين اشرأبت أعناقهم للإنعتاق من سلطة الظلم والقهر والفساد وتحطيم أغلال العبودية والخنوع والظلمات في كل زمان ومكان ... 
         فكانت الثورة الحسينية هي المحرك الأعظم والإكسير الخالد والنبراس العالمي الذي ألهم الملايين وأعظم الشخصيات عبر التاريخ الممتد منذ استشهاده عليه صلوات الله وسلامه.

         نستذكر هذه الذكرى ونتذكر معها الرجال والنساء العظماء الذين شاركوا في هذه الملحمة الخالدة التي لم يتأتى للتاريخ أن يأتي بما يعادلها في عظمتها ونورانيتها وقدسيتها لأنها ارتبطت باسم الحسين والعترة النبوية الزكية التي هي حبل الله الممدود إلى الخلق لإستخلاصهم من الظلمات إلى النور..
ومن الشخصيات العظيمة التي تستحق التوقف عندها طويلا والتأمل بعناية في عظمتها وإنجازاتها هي شخصية سيدنا مسلم بن عقيل بن أبي طالب سلام الله عليه ورحمته ورضوانه، هذا الرجل أو الملاك أو الذي تعجز لغات العالم عن وصف شجاعته وإيمانه وإخلاصه وسموه وورعه، قد اختاره الإمام الحسين عليه السلام ليكون سفيره إلى الكوفة .

        فبعد أن تولى يزيد بن معاوية الحكم بأمر من أبيه ، أخذت الكتب ترد إلى الإمام الحسين عليه السلام للقدوم إلى العراق ومبايعته ليتخلصوا من جور بني أمية وفسادهم وقذارتهم التي أزكمت أنف كل مسلم يرغب بالعيش الكريم، فلم يجد الإمام الحسين سلام الله عليه لهذه السفارة أفضل ولا أشجع ولا أكمل ولا أخلص من هذا العملاق العظيم والطود الشامخ سيدنا مسلم بن عقيل رضوان الله عليه، حيث قال في الكتاب الذي وجهه به إلى أهل الكوفة (وقد بعثت لكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي)؛
الله ما أعظمها من شهادة ولو لم يكن له إلا هذه الشهادة الخالدة من سيد الشهداء لكفى فمابالكم ببطولته وعظمته وسيرته العطرة..
وأمره بالتوجه إلى الكوفة وأخذ البيعة من أهلها بعد أن تقاطرت الكتب وتكاثرت الرسائل التي تطالب بقدوم الحسين عليه السلام، فتوجه فوراً هذا العلم ولم يتردد ثانية واحدة وتعانق هو والإمام الحسين وودعه ودموعهما تنهمر أجمل من حبات اللؤلؤ وقطرات الندى.
وأخذ يشق طريقه في مسيرة الإباء وهو يعلم أنه ذاهب إلى المجهول، فأخذ معه دليلان للطريق واستمر يقطع الصحاري الشاسعة ويعبر المهامه والقفار الخالية الموحشة تحت نير الشمس المحرقة والرمضاء المشتعلة حتى بلغ منهم العطش أيما مبلغ، ثم أضاع الدليلان الطريق وتاه في الصحراء حتى توفي الدليلان من العطش وسيدنا مسلم يقاوم الموت المحتم بشدة وعزيمة يلين لها الفولاذ وإيمان لو وزع على المجرة لفاقها.
       
          حتى أقبل على عينٍ وقد شارف على الهلاك، فشرب منها وكتب له عمر جديد تنتظره فيه مصائب وأحداث جسام مقبلة واستطاع الوصول إلى الكوفة ونزل في بيت المختار بن أبي عبيدة الثقفي، وأخذ الناس يتوافدون عليه وأخذ البيعة عليهم للإمام الحسين عليه السلام.
     
         وقد اجتمع له مايقارب من ١٨ ألف من أهل الكوفة يبايعونه على السمع والطاعة والبيعة للإمام الحسين عليه السلام، وكان عامل يزيد على الكوفة هو النعمان بن بشير الأنصاري وعندما علم بقدوم مسلم لأخذ البيعة قال ( ابن بنت رسول الله أحب إلينا من ابن بنت بجدل ) ( يقصد بابن بنت بجدل الخنزير يزيد ) فعزله يزيد فورا بعد أن اشتكى أزلام بني أمية وأرسلوا الرسائل بأن بشير يتساهل مع مسلم بن عقيل ويتغاضى عنه

وقام يزيداللعين بتولية عبيدالله بن زياد بن أبيه الذي كان أكثر قذارة وشيطنة من ابليس نفسه حيث أنه لم يكن يتورع عن سفك الدماء والإرهاب والكفر واتباع أي وسيلة مهما كانت منحطة وقذرة للوصول إلى هدفه ومبتغاه ، فأخذ يبث الشائعات في الكوفة بأن هناك جيش ضخم قادم من الشام إلى الكوفة حتى يبث الرعب في قلوب أهلها ثم أخذ يستعمل كل وسائل الخسة من رشاوى واعتقالات وإرهاب وترغيب بالأموال والمناصب حتى أخذ الوهن ينتشر بين الثائرين وأهل المدينة المضطربة.

       وكان مسلم بن عقيل قد غير الدار ونزل عند هانئ بن عروة الذي استقبله بحفاوة وكرم وأخذ يستقبل الناس ومن يرغب في المبايعة في بيت هانئ؛ ولعلنا نتوقف هنا لنتذكر إحدى أعظم المواقف في تاريخ البشرية وكان بطلها مسلم بن عقيل.

       حيث أتى شريك بن الأعور وكان مريضا ونزل في بيت هانئ وأخبرهم بأن عبيدالله بن زياد سيأتي لزيارته وأخبرهم أنه سيقوم بإلهائه 
وعندما تحين الفرصة أخبرهم بأنه سيقول (اسقوني ماء) وهي علامة الهجوم ! وعندها يأتي مسلم بن عقيل ويقتله، وكان هانئ يكره قتل هذا الكلب في بيته ولكنه لم يمنعهم ، وأتى اللعين الدعي بن الدعي ابن زياد ودخل دار هانئ وزار شريك وأخذهم الحديث فقال شريك اسقوني ماء، وهي العلامة للهجوم على هذا الخبيث ولكن مسلم لم يتحرك!!

عندها تمثل شريك هذا البيت قائلاً:
مالإنتظار بسلمى أن تحييها :: كأس المنية بالتعجيل فاسقوها

     فشك اللعين ابن زياد في الأمر وخرج فورا من الدار، ولننظر إلى هذا الحوار الذي دار بين شريك ومسلم لكي تعرفوا أن مسلم بن عقيل وضع لنفسه مقاما خالدا إلى أبد الآبدين في ركب الشرف والبطولة والمروءة..

     فلما خرج ابن زياد دخل مسلم والسيف في كفه فقال له شريك: ما منعك من قتله؟ قال: خصلتان أما إحداهما فكراهية هانئ أن يقتل في داره، وأما الأخرى فحديث حدثنيه الناس عن النبي صلّى الله عليه وآله: "أن الإيمان قيد الفتك فلا يفتك مؤمن".

نعم؛؛ 
     هو الإيمان الخالص والقلب الملائكي الطاهر الذي منع مسلم من الفتك باللعين مع أنها كانت أعظم فرصة للقضاء على حكم بني أمية للأبد
ولكنه مسلم بن عقيل، الذي تربى في حجر عمه الكرار أمير المؤمنين عليه السلام وتشرب في قلبه كل معاني الشرف والسؤدد والشجاعة ومكارم الأخلاق السماوية، فلم يشأ أن يفتك ويغدر به لأن الإيمان يقيده بقيد الحرية والشموخ والشرف الباذخ الذي منعه من القيام بذلك حتى لو كلفه ذلك حياته فيما بعد.
لله دره ماأعظمه؛؛
      واستمر ابن زياد في إرهاب الناس وبث الجواسيس والعملاء ينشرون الإشاعات ويأتون بأخبار من بايع لكي يُلقى عليهم القبض ناهيكم عن نشر الإشاعات بقدوم الجيش العرمرم والإمداد من قبل يزيد لعنه الله، ثم ألقى القبض على المؤمن العظيم هانئ بن عروة وأخذ يعذبه لكي يخبره بمكان مسلم فأبى ورفض فقطع اللعين رأسه، وقام مسلم بن عقيل بدعوة من بايعوا للقتال فلم يجتمع إليه إلا القلة وكان الناس قد أصابهم الوهن وتخادلوا عن نصرة مسلم بسبب مخططات بني أمية وابن زياد القذرة وإرهابهم لسكان الكوفة الذين لم يصمدوا كما صمد سيدنا مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة رضوان الله عليه وعندما صلى وأمّ المصلين لم يبقى معه إلا عشرة كانوا قد تفرقوا عنه وبعد أن سلم وجد نفسه وحيدا.
يالله؛؛
تخيلوا هذا الموقف المهول ...

       وكانت جيوش ابن زياد وزبانيته وجواسيسه يلهثون كالكلاب المسعورة في إثره وكان يريد الخروج من الكوفة بأي وسيلة لكي يبلغ الإمام الحسين بتخاذل أهل الكوفة حتى لايقدم عليها، ولم تكن تهمه حياته بل الأهم الإمام الحسين عليه السلام

      وكان العطش والجوع قد بلغ منه مبلغا عظيما وكلاب السلطة الأموية وزبانيتها تطارده في أزقة الكوفة وشوارعها ولم يتجرأ أحد على استقباله
إلا السيدة الكريمة طوعة التي أدخلته وقدمت له الطعام والشراب والمأوى قد عرضت نفسها للخطر كما يدلل على عظمة دور النساء في الإسلام
وعلم جنود اللعين بتواجده عند طوعة فأحاطوا بالدار وأمروه بالخروج وإلا أحرقوا الدار وطوعة ترفض تسليمه.

     ولكن مسلم لم يرضى بذلك وقال لها عندما سمع حوافر الخيل وصهيلها: (يا أمة الله، قد أديت ما عليك من الخير، ولك نصيب من شفاعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقد رأيت عمي أمير المؤمنين عليه السلام في المنام فقال لي: ستلحق بي غدا)، فخرج إليهم هذا الأسد الهصور وأخذ يقاتل هذا الجيش لوحده، ثم أخذ يكر عليهم ويفرق جمعهم بصرخاته التي خلدها التاريخ وضرباته التي بددت جيوش الظلام حتى قتل منهم مايفوق الأربعين لوحده !!!!
فأرسل محمد بن الأشعث يطلب المدد، فاستغرب ابن زياد واضطرب وأصابته الهستيريا لعنه الله ، فقال له ابن الأشعث: (ألم تعلم أيها الأمير أنك بعثتني إلى أسد ضرغام وسيف حسام في كف بطل همام من آل خير الأنام)، وعندما عجز الجند عن قتاله وكانوا يتحاشون مواجهته أخذوا يقذفونه بالحجارة من بعيد.
عجب عجب!!!
سبحان من أعطاه هذا القلب المليء بهذا الكم من الشجاعة والعزيمة والقوة الجبارة.
        وأثناء القتال ضربه أحدهم على وجهه الشريف فشقت الشفة العليا وضربت الثنايا ولم يفت ذلك في عضد عزيمته في مواصلة القتال قيد أنملة 
ولم يستطيعوا القبض عليه إلا كما أسلفت بقذفه بالحجارة( حيلة الجبناء العاجزين ).

        وقبضوا عليه وقيدوه بالسلاسل والأغلال وقد أنهكه التعب والعطش الذي قطع كبده وعندما وصلوا إلى قصر اللعين ابن زياد مر على ماء بارد
فقال ؛ اسقوني من هذا الماء، فرفض السفلة الكفرة اللئام الفجرة أن يسقوا هذا البطل من الماء وكانوا يتلذذون بتعذيبه حتى رق له شخص يقال له عمرو بن حريث وأتاه بقلة ماء وقدح، فأخذ القدح وكلما أراد أن يشرب اختلط الماء بالدم من فمه الشريف فيرفض أن يشرب الماء الملوث بالدم رغم اشرافه على الموت من الظمأ، فحاول أن يشرب مرة أخرى فاختلط بالدم من فمه فرفض مرة أخرى بسبب إيمانه وورعه وتحرجه عن الخروج على تعاليم الإسلام حتى وإن كان في حالة الضرورة القصوى التي تبيح المحرمات !
فحاول مرة ثالثة فسقطت ثناياه الشريفتان كأنها نظم اللؤلؤ في القدح
فقال حينها: (الحمد لله ، لو كان لي من الرزق المقسوم لشربته)
( يالله الخيره)!!

فأمر اللعين بقطع رأسه ورمى بجسده من أعلى القصر بعد أن قرعه سيدنا مسلم بالحديث والكلام الصارم غير آبه به ولابجبروته وسلطته.

ياسبحان الله وكأن الله يريد أن لايذوق إلا أنهار الجنة هو و سيدنا الحسين وعطاشى كربلاء ليشربوا من حوض نبي الرحمة شربة لاظمأ بعدها.

هذا هو مسلم بن عقيل عليه سلام الله.
أعظم سفير في تاريخ البشرية.

خادم العترة الطاهرة
حمدان هادي آل مخلص

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

العباقرة وعظمة العقل

الإمام الوصي بالبرهان الجليّ